اليمن .. سنة أولى ثورة ... (1-3)

تحل هذه الأيام الذكرى الأولى للثورة الشبابية في اليمن بعد شهور من العواصف السياسية والأمنية والتحولات التي أهلتها لاحتلال الترتيب الرابع في ثورات الربيع العربي، بعدما أنتجت اتفاقاً دولياً للتسوية السياسية أطاح حكم الرئيس علي عبدالله صالح الذي حكم البلاد لمدة 33 سنة، وأبقى على نظامه متمتعاً بحصانة قانونية وشريكاً في قيادة عملية التغيير، لكنه بالمقابل جنب هذا البلد الفقير أكثر كوابيس الحرب التي طالما أثارت مخاوف المنطقة والعالم .

ورغم أن شبان الثورة اعتبروا اتفاق التسوية الخليجي انتكاسة لثورة لم تحقق كل أهدافها بعد، إلا أنهم يحتفلون هذه الأيام بالذكرى الأولى لانطلاق الثورة الشبابية الشعبية مكللين بإنجازها السلمي واحدة من أطول ثورات الربيع العربي تجاوزت كل التوقعات التي كانت تدرجها في خانة العنف المسلح استناداً إلى خصوصية هذا البلد الذي يستحوذ سكانه ال 22 مليون نسمة على أكثر من 60 مليون قطعة سلاح وتعصف به تحديات أمنية جسمية وانقسامات وأزمات لا حدود لها .

يتذكر شبان الثورة في أكثر ساحات الاعتصام تفاصيل مريرة ل 52 تظاهرة أسبوعية مليونية نظمت على التوالي في كل يوم جمعة، ابتداء من 18 فبراير/ شباط 2011 الذي شهد تنظيم أول تظاهرة منسقة بين شباب الثورة في المحافظات تحت مسمى “جمعة البداية” التي توحدت فيها مطالب اليمنيين من أقصي الشمال إلى أقصى الجنوب في مشهد وحدوي نادر الحدوث رفع فيه شبان الثورة هدفاً واحداً هو إسقاط نظام صالح، وصولاً إلى “جمعة الكرامة” في 18 مارس/ آذار ،2011 حيث كانت الثورة الشبابية قطعت شوطاً كبيراً في توحيد التيارات الشبابية وأهدافها، غير أن نظام صالح احتفل بالذكرى الأولى ل “جمعة البداية” على طريقته ليشهد اليمنيون فيها أكبر مجزرة تستهدف شبان الثورة هزت اليمن والمنطقة والعالم بعدما قدم فيها نظام صالح أكثر أساليبه الوحشية في قمع الثورة المطالبة بالتغيير .

يحتفل الثوار اليمنيون بالذكرى الأولى لانطلاق الثورة الشبابية التي اتفق على أن انطلاقتها الحقيقية سجلت في ال 11 من فبراير / شباط ،2011 فيومها خرج مئات الآلاف من المواطنين، رجالاً ونساء ومن مختلف الأعمار إلى الشوارع ابتهاجا بسقوط نظام الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك لتنتج هذه الحماسة تباشير ثورة تغييرية سلمية في اليمن عبرت عنها حناجر الشبان الذين صدحوا بصوت واحد “الشعب يريد إسقاط النظام” .

يؤكد كثير من شبان الثورة أن هذا اليوم كان المفتتح للثورة الشبابية حيث احتشد المئات من شبان الجامعات والمدارس والناشطين الحقوقيين والشباب من مختلف فئاتهم وتخصصاتهم ابتهاجاً بنجاح الثورة المصرية وسقوط نظام مبارك في تظاهرات جابوا فيها شوارع العاصمة مرددين هتافات مؤيدة للثورة المصرية سرعان ما تحولت إلى هتافات تطالب بإسقاط نظام الطغمة العسكرية بقيادة علي عبدالله صالح المستمر منذ 33 سنة .

جذور الثورة اليمنية

لم يكن ميلاد الثورة الشبابية مفاجئاً في اليمن، إذ جاء وسط مظاهر احتقان سياسي وأمني نتيجة تصعيد أحزاب المعارضة احتجاجاتها في العاصمة والمحافظات لمناهضة تعديلات دستورية تبناها نظام صالح وحزبه المؤتمر الشعبي العام تتيح لصالح الترشح لمنصب الرئاسة مدى الحياة وتمهد لتوريث نجله العميد أحمد علي عبدالله صالح السلطة، بعدما كان انفرد عبر كتلته السياسية في البرلمان بتعديل قانون الانتخابات وشرع بالترتيب لانتخابات مجلس النواب في غياب المعارضة التي أعلنت رفضها تفرد نظام صالح في تعديل القانون الانتخابي وتعديل الدستور وأعلنت مقاطعة جلسات المجلس النيابي والنزول إلى الشارع لمناهضة هذه التوجهات .

تزامنت الخطوات السياسية التي باشرها نظام صالح مع ترتيبات عسكرية أشاعت مخاوف واسعة بعدما شكل النظام فرقة مشاة عسكرية بقيادة نجله الأصغر العقيد خالد الذي كان تخرج حديثاً في الكلية الملكية البريطانية “سانت هيرست”، وضم اليها ثلاثة ألوية عسكرية تضاهي في قدراتها وعديدها وتسليحها قوات الحرس الجمهوري التي يقودها شقيقه الأكبر العميد أحمد علي عبدالله صالح، في إطار ترتيبات عسكرية شملت عدة محافظات يمنية .

وشهدت أكثر المحافظات اليمنية احتقانات أمنية بعد لجوء مناهضي نظام صالح إلى تنظيم احتجاجات مليونية ومظاهر عصيان مدني غداة دعوة أحزاب المعارضة إلى “هبة شعبية” لمناهضة مشروع نظام صالح في تعديل الدستور والقانون الانتخابي، إلى دعوتهم الشعب إلى ثورة “لاجتثاث الفساد وحكم الفرد والأسرة” بعد فشل جولات الحوار السياسي لحل الأزمة، فيما أتهم صالح معارضيه بتنفيذ سيناريو خارجي لإثارة “الفوضى الخلاقة” في أول رد فعل رسمي على نزول المعارضة إلى الشارع للمطالبة بالإصلاحات والتغيير الديمقراطي .

وأكسبت رياح التغيير القادمة من تونس ثم مصر، الاحتجاجات التي قادتها المعارضة لمناهضة مشروعه في تعديل الدستور والقانون الانتخابي زخماً ثورياً كبيراً عزز من خيارات التغيير التي وضعتها قوى المعارضة بعد سنوات من الشد والجذب مع نظام صار عاجزاً كلياً عن قيادة أي مشاريع للتغير الديمقراطي والإصلاح السياسي .

لكن صنعاء التي أدركت مبكراً أن الاحتجاجات التي قادتها المعارضة مرشحة للتصاعد بشكل يهدد بقاء النظام دفعت بصالح إلى خلط أوراق المعادلة السياسية وأعلن في الثاني من فبراير/ شباط 2011 أمام اجتماع مشترك ضم أعضاء البرلمان الذي يستحوذ على غالبية مقاعده حزب المؤتمر وكذلك مجلس الشورى، تجميد مشروعه لتعديل الدستور وتأجيل الانتخابات النيابية واستئناف الحوار مع المعارضة، كما تعهد بإصلاحات شاملة، فيما اعتبرته دوائر سياسية محاولة متأخرة للتخفيف من حدة الاحتقان في الساحة اليمنية نتيجة التظاهرات الغاضبة التي رفعت سقف مطالبها لأول مرة وبدأت تطالب بتغيير النظام وتدعو صالح إلى التنحي عن الحكم سلمياً .

من التحرير إلى التغيير

نجاح الثورة المصرية في إطاحة نظام حسني مبارك حمل رياح التغيير سريعاً إلى اليمن فبدأت المدونات الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي تستقطب قطاعاً واسعاً من الشباب اليمني الذي انهمك في الحديث عن الثورة ما اعتبروه “محطة التغيير الثالثة” بعد تونس ومصر .

ونشر مدونون شباب الكثير من المقالات التي تتناول مثالب نظام صالح وحتمية الثورة عليه وإسقاطه وتجاوزوا الخطوط الحمراء بنشر صفحات كثيرة تناولت فساد العائلة الحاكمة إلى نشرهم صوراً لصالح وأفراد عائلته الذين يستحوذون على أرفع المناصب في الجيش والأمن والمؤسسات المدنية مذيلة بعبارات اتهامية ووعود بثورة شعبية سلمية لإطاحتهم وملاحقتهم قضائيا ومحاكمتهم .

بحلول الثالث من فبراير/ شباط 2011 أعلن في العاصمة صنعاء عن مبادرة “ثورة شباب اليمن” التي أعلنت عن نفسها في بيانات ورسائل نشرها ناشطون عبر موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” وأعلنوا عزمهم قيادة ثورة شبابية بعيدة عن الأحزاب في الحكم والمعارضة ودعت إلى المشاركة في أول فعاليات الثورة بتظاهرات جابت شوارع العاصمة للمطالبة بالتغيير وإسقاط النظام .

وعلى الرغم من أن هذا الإعلام لم يلق استجابة واسعة من شباب الثورة، إلا أنه مثل الشرارة الأولى في الثورة الشبابية اليمنية .

ويعتقد بعض الناشطين أن التظاهرات التي سارع إلى تنظيمها شبان الثورة ذابت في تظاهرات المعارضة التي نظمت تظاهرات مليونية في المحافظات وانخرط فيها شبان الجامعات اليمنية، قبل أن تتحول إلى تظاهرات شبابية صرفة مناهضة لنظام صالح بعدما حصرت المعارضة حشودها في ميادين عامة خشية وقوع مصادمات مع قوات الجيش والموالين لنظام صالح .

تزايدت وتيرة التظاهرات الشبابية بأعداد محدودة في العاصمة وحاول هؤلاء التجمع في ميدان التحرير، غير أنهم فشلوا في ذلك بعدما سبقهم أنصار نظام صالح في السيطرة على الميدان بذريعة إقامة معرض للموروث الشعبي، فاتجه أنصار المعارضة وشبان الثورة في تظاهرة حماسية جابت شوارع العاصمة وتخللتها أعمال عنف وهجمات على المحتجين من قوات الجيش الموالية لنظام صالح إلى الساحة المقابلة لجامعة صنعاء ليعلنوا من هناك نصب مخيمات للاعتصام قبالة بوابة جامعة صنعاء .

سارع نظام صالح إلى فرض إجراءات أمنية عسكرية شملت العاصمة ومراكز المحافظات استعداداً لمواجهات مع قوى المعارضة التي طالبت بإلغاء الإجراء الذي اتخذه الحزب الحاكم منفرداً في تعديل قانون الانتخابات وتعديل الدستور والتحضير للانتخابات بصورة منفردة خارج دائرة التوافق خصوصاً بعد التظاهرات التي حشدت لها المعارضة زهاء مليون نسمة من محازبيها وأنصارها تحت اسم “تظاهرات يوم الغضب” .

كانت هذه التظاهرات مفاجئة للحكم والمعارضة بعدما توسعت في سبع محافظات وانخرط فيها مئات الآلاف من الشبان لمناهضة مشاريع صالح في تعديل الدستور والاستحواذ على الانتخابات البرلمانية، إلا أن زخمها سرعان ما توارى نتيجة تحريك نظام صالح تظاهرات مليونية اكبر حجماً وشاهدها صالح يومها من طائرة عمودية حلقت فوق المتظاهرين بالعاصمة صنعاء لساعات .

أول كيلومتر حرية

في الحادي عشر من شهر فبراير/ شباط ،2011 عاش اليمنيون يوماً تاريخياً ومفصلياً في الثورة على نظام صالح، إذ لم تمض سوى دقائق على إعلان الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك التنحي عن الحكم حتى اكتظت شوارع العاصمة والمدن اليمنية بالمواطنين المبتهجين بالثورة المصرية في مظاهر احتفال استمرت حتى صبيحة اليوم التالي .

خلال ساعات الليل بدا أن أكثر الشبان اليمنيين المبهورين بنجاح الثورة المصرية قد حسموا أمرهم فخرجوا في صبيحة اليوم التالي 12 فبراير/ شباط في تظاهرات مليونية في العديد من المحافظات، وأطلق المتظاهرون خلالها الألعاب النارية والرصاص الحي في الهواء وسط هتافات موحدة دعت إلى بدء الثورة الشعبية السلمية لإسقاط نظام صالح، فيما كان شبان الثورة في صنعاء قد أعلنوا تأسيس ساحة التغيير في جامعة صنعاء كميدان لانطلاق الثورة المناهضة لنظام صالح بعد مواجهات دامية بين المحتجين وقوات الجيش أطلقت شرارة العنف الأولى وتخللتها حملات اعتقال عشوائية طاولت المئات من شبان الثورة .

منذ اليوم الأول للثورة اتجه نظام صالح إلى حشد الآلاف من الجنود وضباط الجيش بلباس مدني في ميدان التحرير حاملين صوره ولافتات كتب عليها عبارات “مصلحة الوطن فوق كل اعتبار”، “حب الوطن من الإيمان”، “حماية الوطن مسؤولية الجميع”، “نعم للأمن والاستقرار لا للفوضى والعنف” إلى هتافات “بالروح بالدم نفديك يا علي” .

وبعد مواجهات شد وجذب بين شبان الثورة ومؤيدي نظام صالح المسيطرين على ميدان التحرير تجاوز شبان الثورة مخاوفهم من قوات الجيش التي يقودها الأخ غير الشقيق لعلي صالح، اللواء على محسن الأحمر واتجهوا إلى البوابة الرئيسة لجامعة صنعاء ونصبوا خيامهم التي سرعان ما امتدت على طول الشوارع المقابلة لبوابة الجامعة فيما اعتبره الشباب صناعة أول كيلومتر حرية .

لم تمض سوى ساعات قليلة حتى انتقلت عدوى تأسيس ساحات الاعتصام إلى عدة محافظات، وفي صبيحة يوم 12 فبراير/ شباط كانت ساحة الحرية في محافظة تعز الجنوبية قد استكملت ترتيباتها بعد مواجهات خاضها شبان الثورة الذين كانوا احتشدوا في أحد الشوارع وسط المدينة وكذلك كان حال محافظات حضرموت وعدن والحديدة حيث تقاطر الآلاف من شبانها لإقامة ساحات اعتصام رفعت شعار موحدا هو إسقاط نظام صالح .

في 13 فبراير شباط 2011 ومع تصاعد دائرة الاحتجاجات الغاضبة المطالبة بالتغيير وإسقاط نظام صالح اتجهت صنعاء علنا إلى رفع حالة التأهب في صفوف قوات الجيش وفرضت إجراءات أمنية مشددة في المدن الرئيسة، كما نشرت وحدات من قوات الجيش في الشوارع لتفريق أي تجمعات للمتظاهرين وأحاطت ميدان التحرير بوسط العاصمة بالأسلاك الشائكة .

شباب “الفيس بوك”

لم يقف نظام صالح مكتوف اليدين أمام الحراك الشبابي الثوري الذي داهم محافظات البلاد مثل الطوفان، إذ وجهت وزارة الداخلية تحذيراً إلى المواطنين من خطورة “الانجرار وراء الدعوات المشبوهة التي تحاول الزج بهم في تظاهرات غير مرخص لها تستهدف الأمن والاستقرار”، فيما باشر أركان نظام صالح المسيطرين على مؤسسات الجيش إجراءات عسكرية وأمنية واسعة النطاق هيمنت فيها المظاهر العسكرية على كل مفاصل الحياة اليومية لليمنيين .

تجاهل شبان الثورة هذه الإجراءات ووزعوا بيانات عبر مواقع التواصل الاجتماعي وفي الجامعات وساحات الاعتصام والمدارس والمرافق الحكومية لتوحيد الصفوف وتبني مطالب محددة في التغيير، كما أصدروا بيانات طالبوا فيه علي صالح بإجراءات عاجلة لمغادرة السلطة والشروع فوراً بإجراءات لتنحية أبنائه وأقربائه الذين يتقلدون مناصب رفيعة في القوات المسلحة والأمن والمرافق الحكومية الصناعية والنفطية .

ونشر شبان الثورة قوائم بأسماء شخصيات عسكرية ومدنية من أبناء صالح وأقاربه الذين يتقلدون مناصب رفيعة في مؤسسات الجيش والأمن ومؤسسات الدولة المدينة مرفقة بمذكرات تتهمهم بالفساد واستغلال السلطة وتطالب بإقالتهم فوراً .

وعلى الرغم من تكرار صنعاء ومؤسسات الدولة مناشداتها للمواطنين في “الكف عن التظاهرات وما اعتبرته أعمال تخريب وفوضى وحضها المواطنين على تحمل مسؤولياتهم في الحفاظ على الأمن والاستقرار والوقوف صفاً واحداً في وجه دعاة التخريب والفوضى والكراهية”، إلا أن النتائج كانت معاكسة كلياً، حيث شهدت أكثر المحافظات حراكاً سياسياً فريداً تشكلت فيه كثير من ساحات الاعتصام في مراكز المدن اتخذت من يومها مكاناً لتجمع شبان الثورة وانطلاق التظاهرات المطالبة بإسقاط النظام، خصوصاً بعدما واجه شبان الثورة هجمات مسلحة مميتة من قوات الجيش ومن المسلحين الموالين لنظام صالح خلال مشاركتهم في التظاهرات بشوارع المدن .

نتيجة القمع الوحشي الذي قابلت به صنعاء تظاهرات الشبان المطالبين بالتغيير شرعت المعارضة وبعد ثلاثة أيام من انطلاق الثورة الشبابية في يوم ال 14 من فبراير/ شباط بتحركات لقيادة الشارع الغاضب ودعت نظام صالح إلى الاستجابة لما أسمته “رؤية منهجية لقضية التغيير السياسي” المنطلقة من “مبادئ بناء دولة لامركزية تسودها العدالة والمساواة” .

وفي اليوم الخامس من التظاهرات، المصادف ال 16 فبراير/ شباط سجل سقوط أول قتيلين في أول هجمات نفذتها قوات الشرطة على المحتجين باستخدام الرصاص الحي وقنابل الغاز المسيل للدموع في محافظة عدن، فيما شددت السلطات إجراءاتها الأمنية في محيط المرافق الحكومية والقصر الرئاسي بعد تهديد المتظاهرين باقتحامها .

كان هذا الهجوم محطة تحول كبيرة في مسار الثورة، إذ تلاه إعلان الحوثيين الانضمام إلى الثورة الشبابية، ودعا عبدالملك الحوثي الشعب إلى “التحرك الجاد والواعي واستغلال الفرصة للتغيير وإزاحة السلطة المجرمة” وأنه وأنصاره سيقومون بواجبهم في إطار التحرك الشعبي “متهما السلطات بالخيانة ونهب الثروات وإباحة الدم اليمني” .

صالح يفقد حلفاءه

بعد مضي أسبوع على الاحتجاجات الشبابية المطالبة بإسقاط نظام صالح ووسط تصاعد الهجمات من قوات الجيش ومؤيدي نظام صالح على شبان الثورة في صنعاء وعدن أوقعت قتلى وجرحى بعد هجمات استهدفت المحتجين، فقد صالح أهم حلفائه التقليديين، إذ أعلن الشيخ عبد المجيد الزنداني، رئيس جامعة الإيمان الأهلية ورئيس هيئة علماء اليمن تأييده لشبان الثورة ومطالبهم مطلقاً فتواه الشهيرة التي اعتبرت المشاركة في التظاهرات الشبابية “جهاداً في سبيل الله”، ما فتح الطريق للعشرات من علماء الدين المنضوين تحت مظلة هيئة علماء اليمن إلى إعلان تأييدهم للثورة الشبابية ومطالبها في إطاحة نظام صالح .

كان استمرار نظام صالح في استخدام العنف المفرط لقمع التظاهرات سبباً في تفكك ما تبقى من الحفاء التقليديين الذين طالما اعتمد عليهم في تأمين نظام حكمة على مدى 33 سنة، وأعلن الكثير من زعماء القبائل انضمامهم للثورة الشبابية وتأييدهم مطالبها في اسقاط نظام صالح، خصوصاً بعد التقارير التي أكدت ضلوع بعض المرتزقة من رجال القبائل التي زارها صالح مع أول أيام الثورة الشبابية في تنفيذ هذه الهجمات على المحتجين استجابة لدعوته في التصدي لما أسماها “مؤامرات” تستهدف الأمن وإثارة والفوضى الانقلاب على الشرعية الدستورية .

“جمعة البداية”

لم تنه حركة الاحتجاجات الشبابية أسبوعها الأول حتى تأسست ساحات الحرية التحرير والتغيير في أكثر المحافظات، كما تأسست هيئات قيادية من الائتلافات الثورية الشبابية التي أخذت على عاتقها تنظيم وتوحيد الحركة الشبابية الثورية وأعلنت يوم الجمعة 18 شباط 2011 تنظيم أول تظاهرات احتجاج مناهضة لنظام صالح تحت شعار موحد هو “جمعة البداية” أنخرط فيها مئات الآلاف في الساحات العامة بالعاصمة ومراكز المحافظات للمطالبة بإسقاط نظام صالح .

تخلل تظاهرات “جمعة البداية” هجمات شنها أنصار صالح على شبان الثورة، من جهة إلى أخرى شنتها قوات الشرطة والجيش لتسجل مقتل أربعة محتجين وأكثر من 72 جريحاً، فيما أتجه المحتجون الغاضبون إلى إقفال الشوارع بالأحجار والإطارات المشتعلة بعدما شوهد المئات من الضباط والجنود الموالين لنظام صالح يشنون هجمات على المحتجين وهم يرتدون لباساً مدنياً .

أثار التصعيد في الهجمات على شبان الثورة ردود فعل غاضبة في البرلمان حيث أعلن العديد من الأعضاء احتجاجهم على قمع الاحتجاجات السلمية، كما أعلنوا استقالتهم من الحزب الحاكم ومن الكتلة السياسية لحزب المؤتمر في البرلمان، ولا سيما بعد رفض هيئة رئاسة المجلس النيابي مناقشة التداعيات التي خلفها التظاهرات الاحتجاجية، فيما أعلن النائب عبدالعزيز جباري، القيادي في حزب المؤتمر الحاكم عزمه وآخرون الاستقالة من حزب المؤتمر وتأليف كتلة برلمانية مستقلة تدافع عن المواطنين وتتبنى مطالبهم المشروعة .

انتقلت عمليات القمع لشبان الثورة إلى محافظة عدن التي شهدت تصعيداً عسكرياً خطراً أثناء تولي العميد عبدالله قيران منصب مدير أمن المحافظة فتدهورت الحالة الأمنية إلى حد كبير وسط مواجهات وأعمال عنف غير مسبوقة أوقعت العديد من الضحايا من المدنيين والجنود .

وأنتج تنامي ثورة الاحتجاجات المطالبة بتغيير النظام وتنحي صالح عن الحكم حال احتقان لا سابق لها في العديد من المحافظات الجنوبية، وخصوصاً بعد تدخل الجيش بسلاحه الثقيل في قمع الاحتجاجات السلمية، فيما شهدت المحافظات الشمالية ترتيبات لتحالفات جديدة بين القوى السياسية والاجتماعية التي رفعت مطالب موحدة بشأن الإصلاح السياسي وتغيير النظام .

وحمل اليوم التاسع للثورة الشبابية 20 فبراير/ شباط مفاجأة من العيار الثقيل، إذ أعلنت أحزاب المعارضة في تكتل اللقاء المشترك الالتحام بشبان الثورة المطالبين بإسقاط نظام صالح إلى دعوتها محازبيها وأنصارها إلى الالتحام بالشباب المحتجين في الساحات والانخراط في فعالياتهم الاحتجاجية الرافضة لاستمرار القمع والاستبداد والقهر والفساد، وهي الدعوة التي قابلها الرئيس صالح بالإعلان عن استعداده تلبية مطالب المحتجين إن كانت مشروعة مقراً للمرة الأولى أن اليمن يمر “بظروف صعبة واستثنائية” .

استمر نزيف الدم في أكثر المحافظات وصمود شبان الثورة أمام آلة القمع الرسمية لنظام صالح ما دفع الأخير إلى التعرض لأول مرة لمطالب المحتجين بتنحيه ورحيله وأفراد عائلته، وقال “هم يطالبون برحيلي لكنني لن أرحل إلا عن طريق صناديق الاقتراع”، ودعا المعارضة إلى احترام إرادة الشعب “فالسلطة مغرم وليست مغنما والشعب هو المرجعية ومن يريد الوصول إلى كرسي السلطة عليه أن يسلك سلوكاً حضارياً دون اللجوء إلى الغوغاء والفوضى” .

واتهمت المعارضة نظام صالح ب “ارتكاب جرائم القتل والبطش والقمع عبر أجهزته الأمنية وأعوانه من البلاطجة وأصحاب السوابق بحق الفعاليات الاحتجاجية السلمية التي عمت المحافظات”، وأعلنت “دعمها المطلق لحق الشباب في التعبير عن الرأي بالوسائل السلمية والديمقراطية” ودانت “جرائم القتل وأعمال القمع والإرهاب التي تعرض لها الشبان والناشطون المنخرطون في التظاهرات من قبل السلطة وأجهزتها القمعية” .

وأثار إعلان صالح عدم الرضوخ لمطالب المحتجين في التنحي عن الحكم ردود فعل واسعة برزت إلى الواجهة في عشرات البيانات الصادرة عن منظمات مدنية وحقوقية وكيانات ثقافية واجتماعية أكدت تبنيها مطالب المحتجين في تغيير النظام وتنحي الرئيس وأفراد عائلته من السلطة وتأليف حكومة توافق تبحث في مشروع شامل للإصلاحات وتعديل الدستور وقانون الانتخابات وتمهد لانتخابات نيابية نزيهة .

انشقاق الجيش

بعد وقوع المجزرة ارتفع عديد القتلى من شبان الثورة إلى أكثر من 120 قتيلاً وآلاف الجرحى، فيما أعلن المجلس الأعلى للدفاع تمسكه ببقاء صالح لحين انتهاء فترة ولايته وتوعده “التصدي للمحالات الانقلابية والدفاع عن الشرعية الدستورية” .

لكن نظام صالح بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة غداة إعلان عدد من كبار قادة الجيش المقربين من صالح الانشقاق عن النظام والانحياز إلى مطالب الشعب، فيما أعلن كثير من رجال الأعمال الذي ظلوا صامتين خلال الأسابيع السابقة التبرع لشبان الثورة بعشرات الملايين لحضهم على الصمود في هبة شعبية لا سابق لها واكتظت ساحات الاعتصام بمئات الآلاف من رجال القبائل الذين هبوا لنصرة شباب الثورة .

وفي بيانه المتلفز الشهير بعد أيام من وقوع المجزرة، أعلن اللواء على محسن الأحمر قائد المنطقة الشمالية الغربية والفرقة الأولى المدرعة اللواء الأحمر تأييده الكامل لثورة الشباب السلمية، وأكد أن القوات التي يشرف عليها ستؤدي واجبها بشكل غير منقوص “في حفظ الأمن والاستقرار” وطلب من صالح الاستماع إلى صوت العقل والشعب والاستقالة حقنا لدماء اليمنيين بعد تأكيده أن القوات المسلحة اليمنية “ستقف إلى جانب الشعب” .

ولم يكن بيان اللواء الأحمر الذي لعب دوراً في تثبيت نظام صالح في العديد من العواصف الانقلابية التي رافقت حكمه سوى مفتاح لطوفان بيانات أعلنها مئات القادة العسكريين من سائر تشكيلات الجيش الذين أعلنوا انضمامهم إلى ثورة الشاب وطالبوا صالح بالتنحي سلمياً .

“جمعة الكرامة” الفاصلة

سجلت تظاهرات “جمعة الكرامة” في الثامن عشر من شهر مارس / آذار واحدة من أكثر المجازر دموية بحق شبان الثورة بعدما شن مسلحون موالون لنظام صالح تمركزوا في أسطح البنايات في ساحة التغيير بصنعاء هجوماً بالرصاص الحي على المحتجين أثناء أدائهم صلاة الجمعة أوقع 57 قتيلاً ومئات الجرحى وخلف تداعيات سياسية وأمنية كبيرة دفعت نظام صالح إلى إعلان حال الطوارئ في عموم البلاد وحظر التجوال بالسلاح لمدة شهر، فضلاً عن قراره إقالة الحكومة وتكليفها بتصريف الأعمال .

شكلت مجزرة “جمعة الكرامة” محطة مفصلية في مسار الثورة الشبابية المناهضة لنظام صالح إذا أشاعت فورة احتجاجات لدى المعارضة وقيادات الحكومة وحزب المؤتمر والبرلمان وسائر المؤسسات في نظام صالح، بما فيها الجيش الذي أعلن قطاع واسع منه انشقاقه عن نظام صالح بعد البيان الشهير الذي أصدره اللواء على محسن الأحمر وأعلن فيه تأييده للثورة الشبابية وتبني مطالبهم في إسقاط نظام صالح .

كذلك أعلن أوسع تجمع لعلماء اليمن ووجهاء القبائل برئاسة الشيخ صادق الأحمر زعيم قبيلة حاشد تخليهم عن نظام صالح وطالبوه بالتنحي وحقن الدماء والاستجابة لمطالب الثوار كما طالبوا الجيش بعدم تنفيذ أية أوامر للقتل والقمع .

تجاهل المواطنون الغاضبون حال الطوارئ وانخرطوا في تظاهرات غاضبة عمت مختلف المحافظات، فيما أعلن مئات المسؤولين في نظام صالح ومعهم عدد كبير من الوزراء والسفراء وأعضاء المجلس النيابي جماعياً وفردياً استقالتهم من مناصبهم ومن عضوية حزب المؤتمر احتجاجاً على المجزرة “التي تحولت كابوساً ثقيلا لنظام صالح الذي شعر بأن نظامه ينهار كلياً نتيجة تخلي كثير من المسؤولين والوجهاء والسفراء وعلماء الدين ومنظمات المجتمع المدني والكيانات النقابية والعمالية والاتحادات التخلي عنه والانحياز لثورة الشعب المطالب بإسقاط نظامه .

نذر الحرب الأهلية

لم توقف آلة القمع الوحشية ولجوء صالح للتحضر لعمل عسكري لمواجهة ثورة الشباب المناهضة لنظامه سير التظاهرات اليومية والأسبوعية في أكثر المحافظات والتي استمرت على وتيرتها بأسماء وشعارات مختلفة، فيما عاشت الساحة اليمنية حال انقسام غير مسبوق بعدما شرع نظام صالح بحشد الآلاف من مؤيديه في تظاهرات أسبوعية كانت تنظم بالتوازي مع تظاهرات شبان الثورة في ميدان السبعين القريب من القصر الرئاسي، خصوصاً بعدما أدت المصادمات بين الفريقين إلى وقوع ضحايا من الجانبين .

وتصاعدت حدة التوتر داخل العاصمة مع اتجاه نظام صالح إلى تسليح الآلاف من رجال القبائل لمواجهة حركة الاحتجاجات المتصاعدة المطالبة بإسقاط نظامه لا سيما بعدما دعا صالح أنصاره إلى تظاهرات مليونية للرد على إعلان معارضيه تظاهرات كبيرة لوضع نهاية للنظام ودعوته القبائل إرسال حشودها إلى العاصمة لإظهار الولاء لنظامه .

وزاد من حال التوتر التحذيرات التي أطلقتها وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون التي دعت الأمريكيين إلى مغادرة اليمن قبيل تظاهرات الجمعة المخاوف في أوساط المواطنين، خصوصاً أنها تزامنت مع دعوة مشابهة أطلقتها عواصم أوروبية إلى إجراءات باشرها بعض السفارات الغربية لترحيل رعاياها وبعض دبلوماسييها وعائلاتهم بحجة التدهور السريع للأوضاع الأمنية في اليمن .

لم يمض الكثير من الوقت حتى داهم التدهور الأمني العديد من المحافظات التي خرجت عن سيطرة الحكومة المركزية وسط مخاوف واسعة من مخطط لتفكيك البلاد لينتهي الاحتقان بحرب شاملة بدأت نذرها في العاصمة صنعاء بين الجيش المؤيد لنظام صالح ورجال القبائل بزعامة الشيخ صادق الأحمر، زعيم قبيلة حاشد، بعد أن أعلن صالح صراحة رفضه تقديم أي تنازلات جديدة للحل السلمي للأزمة وسرعان ما امتدت إلى محافظة تعز التي عاشت فصول حرب شوارع بين حراس الثورة وقوات الجيش المؤيدة لنظام صالح .

وأشرت المواجهات التي احتدمت في الضواحي الشمالية بين الجيش المؤيد لنظام صالح ورجال القبائل المناهضين لنظامه وكذلك في الأحياء الشمالية للعاصمة بين قوات صالح ورجال القبائل من أنصار الشيخ صادق الأحمر، زعيم قبيلة حاشد، بتفجر الموقف العسكري في أرجاء اليمن، خصوصاً بعدما استخدم نظام صالح الدبابات والطيران العمودي والحربي في هذه المواجهات وتصاعد عديد الضحايا والمشردين من المدنيين .

ولأيام طويلة اختنقت الأحياء الشمالية للعاصمة صنعاء بحرب شوارع تخللها قصف استهدف مواقع الجيش المؤيد للثورة بالصواريخ والمدفعية لتسود العاصمة حالة توتر أمني نزلت فيها قوات الجيش إلى الشوارع بعدما امتدت المواجهات إلى وسط العاصمة وأجزاء من أحيائها الشمالية .

استمرت الحرب أسابيع سقط خلالها العشرات من القتلى والجرحى وأدت إلى تشريد الآلاف من منازلهم وانتهت باتفاق هدنة رعته الرياض بعدما طاول الخراب كثير من أحياء العاصمة أرغم آلاف السكان على الفرار إلى خارج العاصمة .