لماذا الآن وأين لبنان منها.. وأين إسرائيل؟ : الصفقة الفرنسية ـ السعودية لتسليح الجيش

لم يكن لبنان طوال السنوات الماضية الا في صلب المشهد الاقليمي، لكنه هذه المرة، يتحول ساحة من ساحات الاحتدام الممتد من الخليج الى البحر المتوسط، مرورا ببلاد الرافدين والشام.. 

لم يصدر الأمر الاقليمي أو الدولي بهز الاستقرار اللبناني، لكن «المكرمة السعودية» بقيمة ثلاثة مليارات دولار للفرنسيين عن طريق الجيش اللبناني، وبدل أن تكون عنصر اطمئنان، بدليل رصدها لمصلحة حماة الاستقرار الوطني، شرّعت الأسئلة، اذ بدا للوهلة الأولى أن هناك من يتاجر بلبنان ويريد أن يرميه في لعبة شد حبال أكبر منه، لكأن «أمرا ما» قد صدر، من «مكان ما»، وكل يوم يمر، يجعل لبنان أكثر توجسا من احتمال اقترابه من نفق أسود، يجعله أمام نسخة مكررة لما جرى في نهاية عهد أمين الجميل. 

يدرك ميشال سليمان، ومن موقعيه، على رأس الدولة أولا، وكعسكري سابق ثانيا، حاجة المؤسسة التي انتمى اليها للعتاد والسلاح والامكانات، لكن يفترض به، وعبر هذين الموقعين، وبينهما ومعهما خبرة تمتد من أمرة فرقة عسكرية في تلة اللبونة قرب الناقورة في مطلع السبعينيات، الى مسؤولية ادارة توازنات بلد بكامله اليوم، أن يكون حكيما وقادرا على التقاط بديهيات السياسة وألا يفرط بختمه سواء أعطي ريقا طيبا بتمديد ولايته، أم إشارة سلبية بأن يستعد لحزم أمتعته. 

ليس خافيا على أحد أن هناك خطة خمسية لتسليح المؤسسة العسكرية، بقيمة 4.7 مليار دولار أميركي، أقرتها حكومة نجيب ميقاتي، قبل أن تستقيل، وتبنتها مجوعة العمل الدولية في نيويورك في بداية الخريف الماضي، وهي إن دلت على شيء انما على وجود ارادة دولية باستمرار مظلة الاستقرار، برغم نفحات النيران السورية التي امتدت الى حدود لبنان وعمقه في الشهور الأخيرة، وتوجت بالانفجار المجرم الذي استهدف الوزير الأسبق محمد شطح. 
تضمنت هذه الخطة شقين: أولهما، رصد 60 في المئة من البرنامج (2.7 مليار دولار) لمصلحة البنية العسكرية التحتية التي تشمل مقرات القيادة والمدرسة الحربية والمستشفى العسكري المركزي والمستشفيات الميدانية الاقليمية وتحديث الثكنات الحالية وإقامة ثكنات جديدة ومراكز دفاعية وملاجئ ومطارات عسكرية وقواعد بحرية ومنظومة اتصالات متطورة ودفع الإخلاءات عن الأملاك التي يقيم الجيش عليها، وغيرها مما يندرج في هذه الخانة من أعمال تدريب ووسائل ايضاح وتطوير لوجستيات. 

الشق الثاني وبنسبة 40 في المئة (حوالي 2 مليار دولار) يندرج في خانة تطوير السلاح وتجديده وشراء أسلحة جديدة. 

هنا يصبح السؤال، كيف يمكن للجيش أن يستفيد من الهبة السعودية التي لن تصل اليه بل للفرنسيين مباشرة، وذلك في مجال البنية التحتية العسكرية التي تجعل الجيش الى حد كبير بمنأى عن الانكشاف كما هو حاصل اليوم وكما دلّلت كل الحروب والأحداث العسكرية وآخرها حادثة العديسة في صيف العام 2010؟ 
واذا افترضنا أن «المكرمة السعودية» تفيض عن حاجات الجيش في الشق الثاني (خطة تجديد الأسلحة وتطويرها المقدرة كلفتها بنحو ملياري دولار)، هل سيكون لزاما على الجيش أن يستبدل سلاحه الأميركي بأغلبيته، بسلاح فرنسي؟ وهل يمكن تطوير وتجديد السلاح الأميركي بسلاح فرنسي (الجواب طبعا لا)، خاصة أن مستشاري رئيس الجمهورية سارعوا، أمس، للترويج بأن المليارات السعودية الثلاثة التي سيضاف إليها نحو نصف مليار دولار (تسهيلات وتقديمات فرنسية)، تعني أن خطة الجيش الخمسية تحتاج فقط الى نحو مليار دولار حتى تكتمل! 

هنا يصبح السؤال كيف سيستثمر لبنان هذه المليارات السعودية؟ هل سيطلب من باريس طائرات «ميراج» ومروحيات «غازيل» مجهزة تكمل الطائرات التسع التي حصل عليها من الإمارات، ولم يحصل حتى الآن على منصات صواريخها من الفرنسيين، فكيف بالصواريخ نفسها؟ 
هل يمكن أن تقبل فرنسا تزويد لبنان، الى هذا الأسطول الجوي، بمنظومة دفاع جوي تتضمن رادارات وصواريخ مضادة للطائرات تتصدى لأية خروق جوية اسرائيلية للسيادة اللبنانية؟ 

هل يمكن أن تقبل فرنسا بتزويد لبنان بزوارق وبوارج حربية مزودة بصواريخ بحر ـ بحر في حال تعرض سيادة لبنان البحرية وثروته الغازية الافتراضية لأي اعتداء اسرائيلي في المستقبل؟ 

لقد حرم الاتفاق السعودي ـ الفرنسي، بموافقة رئاسية لبنانية، الجيش اللبناني من فرصة الاستفادة من هذه المليارات بطريقة افضل، خاصة أن الوقائع بيّنت أن قيادة المؤسسة العسكرية لم تكن على علم بالمداولات حول الهبة السعودية، وبالتالي كان من الافضل ان يعلن عنها في مؤتمر روما لدعم الجيش، في الأسابيع القليلة المقبلة، بدل هذا الارتجال وما شابه من عيوب في الشكل والمضمون. 

نعم، كان من الأفضل ان تمنح الهبة السعودية مباشرة الى لبنان بحيث يفتح حساب في مصرف لبنان ويصرف الجيش منها وفق احتياجاته الملحة، استنادا الى الخطة الخمسية نفسها؛ غير أن ربط الهبة مباشرة بالدولة الفرنسية يطرح علامات استفهام انطلاقا من تجربة سابقة طرية العهد، إذ إنه بعدما زود الاماراتيون لبنان بطائرات «الغازيل»، تم نزع كل التسليح منها، حتى قواعد وضع الصواريخ والرشاشات، وعندما طلب لبنان من فرنسا اعادة تجهيز الطائرات بالمعدات، طلبت مبالغ تفوق سعر الطائرات نفسها. 

وهناك مثل آخر، عندما زوّد الفرنسيون أحد الأجهزة اللبنانية ببرنامج حديث لتعقب الاتصالات وتم استخدامه لكشف الشبكات الاسرائيلية، كاد الأمر يتسبب بأزمة في العلاقات بين البلدين في ظل الإلحاح الاسرائيلي على باريس من أجل استرداد البرنامج المذكور.

ثمة اتفاقيات دفاعية بين فرنسا وإسرائيل منذ حوالي عقدين من الزمن، تتضمن تحديد الأفضليات والأولويات، وليس خافيا على أحد أن الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، وقبل أن يزور السعودية، أمس الأول، كان قد زار تل ابيب في تشرين الثاني الماضي، وهو أبلغ الاسرائيليين بمضمون الصفقة التي بدأ العمل عليها مع الملك عبدالله والرئيس ميشال سليمان منذ ما قبل رحلة نيويورك؛ فهل تمكن سيد الأليزيه من انتزاع قرار إسرائيلي يسمح لبلاده بأن تزود جيش لبنان الوطني بسلاح نوعي، ام انه سيكون مقدرا لهذه الهبة أن تذهب الى امور خارج التسليح مثل الأسلحة غير القاتلة (مناظير) ووسائل التدريب والتجهيز غير الحربي مثل الألبسة والأحذية وغيرها؟ 

لقد كان الاحرى برئيس الجمهورية أن يشرك الجيش في التفاوض لأنه، وبرغم موقعه السابق وموقعه الحالي كقائد أعلى للقوات المسلحة، وبرغم ما تعطيه له المادة 52 من الدستور من أحقية بالتفاوض وعقد المعاهدات الدولية، فان أهل البيت أدرى بشعابه والجيش أعلم باحتياجاته وأولوياته، وسبل صرف هذه الهبة وغيرها من الهبات. 
وحسنا فعل أن اتفق ميشال سليمان مع نظيره الفرنسي بأن يترك لجيشَي ووزارتَي الدفاع في البلدين أن يحددوا معا سبل صرف الهبة وتوزيعها بشكل شفاف، وبعيدا عن أية شروط قد تؤدي الى تعطيل دور الجيش بدل تفعيله وتزخيمه وصولا الى جعله أول ركيزة من ركائز الحماية الوطنية في مواجهة الخطر الإسرائيلي والارهاب. 

الثقة كل الثقة بأن الجيش بقيادته وضباطه وجنوده وعقيدته الوطنية لن يقبل بأن تحوله هذه الهبة، أو غيرها من الهبات، الى أداة من ادوات الاستثمار السياسي في الصراع الداخلي، الأمر الذي قد يهدد بانقسام الجيش وإعادة تكرار مشاهد الحرب الأهلية البغيضة. 

لقد رفض الجيش منذ العام 1990 حتى الآن، كل مساعدة مشروطة، وخير دليل على ذلك المساعدات الأميركية المستمرة للمؤسسة العسكرية، والتي لم تقرن يوما بشرط من أي نوع كان، وبالتالي، صار لزاما على كل من يريد الاستثمار في الجيش أن يدرك مناعة المؤسسة وعصيانها على كل من يريد تحويل بوصلتها تحت اي ظرف أو عنوان كان.