المهرة تنتفض مجدداً: لطرد «التحالف» وحلّ ميليشياته

بعد أسابيع فقط على إعلانها تعليق الاعتصام المفتوح في مدينة الغيضة، مركز محافظة المهرة، فسحاً في المجال أمام السعودية لتلبية مطالب المعتصمين، استأنفت اللجنة المُنظِّمة لاحتجاجات المهرة نشاطاتها، بسقف أعلى هذه المرة، وانطلاقاً من المناطق نفسها التي تُعسِكر فيها قوات الرياض وأبو ظبي

 

استُؤنفت، منذ مطلع الأسبوع الجاري، الاحتجاجات الرافضة لوجود القوات السعودية والإماراتية في محافظة المهرة، بعدما دعت اللجنة المنظمة للاعتصامات إلى رفع تعليقها رداً على نكث الرياض بوعودها، ورفضها الإيفاء بالمطالب التي التزمت بها بموجب الاتفاق الذي جرى التوصل إليه عقب الموجة الأولى من الاحتجاجات. اللافت في الموجة الجديدة أنها لم تنطلق من مدينة الغيضة، مركز المحافظة، بل من المديريات التي تتمركز فيها القوات السعودية والإماراتية، كمديرية المسيلة مثلاً، في رسالة تحذير إلى الرياض وأبو ظبي من أن الاحتجاجات لن تظلّ محصورة في الدائرة التي خرجت منها في تموز/ يوليو الماضي.

يوم الاثنين الفائت، بدأ المتظاهرون القادمون من مختلف مديريات المهرة (حوف وشحن والغيضة وحصوين وقشن وسيحوت والمسيلة) اعتصاماً مفتوحاً أمام معسكر للقوات السعودية في منطقة المسيلة، للمطالبة بخروج قوات «التحالف» من أراضي المحافظة. وتقدّم المعتصمين، الذين رفعوا لافتات مناوئة لـ«التحالف»، وكيل محافظة المهرة لشؤون الصحراء (سابقاً) علي سالم الحريزي، الذي قال إن «سواحل المهرة اليوم كلها معسكرات سعودية، من الدمخ إلى حوف، وهو ما يحرم أبناءَ المحافظة الساحلَ كاملاً، كما حُرموا المطار وكثيراً من المناطق». والجدير ذكره، هنا، أن الحريزي كان قد تصدّر أيضاً الموجة الأولى من الاحتجاجات، قبل أن يصدر الرئيس المنتهية ولايته عبد ربه منصور هادي قراراً بإقالته بإيعاز سعودي، لتجريد المحتجين من عناصر قوتهم. واتهم المعتصمون، بدورهم، قوات «التحالف» بالسعي إلى زعزعة استقرار محافظتهم وأمنها، مؤكدين أنهم لن يتهاونوا في الدفاع عن المهرة التي «لا ناقة لها في الحرب ولا جمل».

اللافت، أيضاً، أن اللجنة المنظمة للاعتصام وجّهت رسالة إلى أهالي بقية المحافظات الجنوبية، ولا سيما منها لحج والضالع، تطالبهم فيها بسحب أبنائهم من المعسكرات التي افتتحها «التحالف» في المهرة، تحت طائلة حدوث «ما لا تُحمد عقباه»، و«جرّنا إلى الثأر القبلي وكل أشكال المشاكل الاجتماعية». دعوة تجلّي وعي «المهريين» بخطورة عمليات التجنيد التي تقوم بها كل من السعودية والإمارات، التي بدت نتائجها واضحة في مدينة عدن، حيث تكاثرت الميليشيات وتفشّت الكراهية وعمّت الفوضى وتضاعفت حالة الانفلات الأمني.

 

يرفض أبناء المهرة استنساخ النموذج «العدني» في محافظتهم

 

هذا النموذج، بالتحديد، هو ما لا يريد أبناء المهرة استنساخه في مناطقهم، بعدما كانت محافظتهم حتى الأمس القريب مَحمِية من التجاذبات السياسية والنزاعات العسكرية والأمنية، بفعل عوامل متعددة، على رأسها اتفاق القيادات اليمنية من كلا الطرفين، بموجب تفاهم غير مكتوب، على إبقاء المحافظة مُتنفّساً، وساحة خلفية للمحاربين، خصوصاً أنها تشكل المعبر البري الوحيد للراغبين في الخروج من وطنهم أو العودة إليه. يضاف إلى ذلك أن المهرة تمثّل، في زمن الانهيار الاقتصادي (شمالاً وجنوباً)، سوقاً حرة للتجارة وتبادل السلع والبضائع، وأيضاً ملتقى للحوار وتبادل الرسائل وتجديد الاتفاقات القبلية بعيداً عن الحرب واصطفافاتها وتبعاتها. وقد جنّب الموقع الجغرافي للمهرة البعيد جداً عن جبهات القتال، أبناء المحافظة، الاختلاف والصراع الدامي، لمصلحة العلاقات التاريخية بين القبائل، والاتفاقات المُحرّم خرقها وفق العرف القبلي، وكذلك المصاهرات التي لعبت وتلعب دوراً كبيراً في إيجاد الترابط بين قبائل الشمال والجنوب والشرق. وعلى رغم قساوة الحرب وتعقيداتها، ووصول الخصومة إلى حدّ الفجور في أحيان كثيرة، إلا أن التشكيلات الإدارية والعسكرية والأمنية المسموح بها لهادي بقيت تأخذ بالاعتبار خصوصية المهرة، وبنسبة أقل حضرموت وشبوة.

لكن بعدما قرّرت السعودية والإماراتية «اقتحام» المهرة لأطماع لم تعد خافية، بدت «الشرعية» في موقع المتواطئ معهما، حتى إن من خرجوا في الاعتصامات الأولى رافعين رايتها باتوا اليوم يرفضونها ويعتبرونها شريكاً في ما تتعرّض له محافظتهم من انتهاكات لا تفتأ تتصاعد. إذ إن السعودية، في أعقاب توقيعها اتفاقاً مع المعتصمين نصّ على خروج قواتها من المواقع الحيوية وتسليم الأخيرة لأبناء المهرة، عمدت إلى توسيع وجودها العسكري في المحافظة، ولم تبادر في أي خطوة من شأنها تمكين الأهالي من مطار الغيضة وميناء نشطون وغيرهما من المواقع، باستثناء خطوات دعائية يرعاها السفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر. وليس ما تقوم به السعودية اليوم، بعدما أخفق سعي الإمارات إلى تثبيت موطئ قدم في المحافظة بفعل الرفض الشعبي الواسع لها والحساسية العمانية الفائقة تجاهها، مدفوعاً فقط بالتطلع إلى السيطرة على سواحل المهرة (لما تمتاز به من موقع استراتيجي)، بل إلى جانبه أيضاً السعي إلى تطويق سلطنة عمان، التي تلتزم سياسة النأي بالنفس عن صراعات المنطقة، وشكّلت - في الحالة اليمنية - جسر تواصل بين الأطراف المتصارعة، وهو ما لا يصبّ في مصلحة الرياض وأبو ظبي.

والجدير ذكره، هنا، أن محافظة المهرة تمثل بالنسبة إلى السلطنة وأمنها القومي عمقاً حيوياً واستراتيجياً. وانطلاقاً من ذلك، حرصت مسقط على تحييدها عن الصراع في اليمن، بعدما كانت قد أسهمت في تطويرها والنهوض بها وتشكيل دورتها الاقتصادية. كذلك إن ارتباط عمان بالمهرة ليس ارتباطاً عاطفياً أو اجتماعياً قبلياً فقط، بل هو ارتباط قديم المنشأ؛ فبعض المناطق في كلا البلدين خضعت تاريخياً لسلطة الطرف الآخر، عندما كان الحكم في الجنوب الشرقي لليمن يتبع نموذج السلاطين الشبيه بنظام السلطنة، قبل أن تُرسم الحدود بشكلها الحالي الذي على أساسه قُسّمت الجغرافيا السياسية للجزيرة العربية، وخضع اليمن برمّته لوصاية الرياض، التي رفضت مقاربة موضوعات هذا البلد وقضاياه من قِبَل أي جهة إقليمية أو دولية. ومع ذلك، وبفضل العلاقات الخليجية المتوازنة (سابقاً)، راعت السعودية الحاجة الأمنية والاستراتيجية العمانية في اعتبار المهرة مجالاً حيوياً، من دون أن تعمد إلى وضع عراقيل أمام التمدد العماني السلس والمدروس في المحافظة. وقد وجدت الحكومات اليمنية المتعاقبة في الصمت السعودي بمثابة إذن لها بإشاحة النظر، وترك الأمر للسلطنة حتى تتولى عملية التنمية في المهرة.

 

المصدر: الأخبار اللبنانية