بين البوكمال وسوتشي..

 

تتسارع حركة الأحداث، وترتفع معها وتيرة الحركة السياسية الموازية في محاولة واضحة للحاق بالتطورات التي تبدو سابقة في كثير من الأحيان للخطوات السياسية، خصوصاً أن الكثير من التداعيات المرتبطة بتلك التطورات تبدو في حِلٍّ من أي سقف يلزمها بشكل الاصطفاف السياسي وموقعه ودوره، ويحمل مؤشرات واضحة على سياق سياسي لابد من أن تبلوره مجموعة من الخرائط السياسية التي وضعت أولى إحداثياتها القمة السورية الروسية، وربما بلورت بعضاً من تجلياتها القمة الثلاثية، بانتظار أن تحدد أبعادها ومعطياتها ملتقيات سوتشي وماسيليها لاحقاً.

 

في القراءة الأولية.. تأخذنا المعطيات إلى الجزم بمؤشرين حقيقيين.. الأول يتعلق بأفول مرحلة التعويل على التنظيمات الإرهابية واستحالة تعويم دورها الوظيفي، على الأقل بشكلها ونموذجها الحالي، ما يعني نهاية مشروع كامل وتعديلات جوهرية في بنيته وأدواته ومشاهد تمظهره السياسي والفكري والمقاربة الغربية الحاملة له، والثاني يرتبط بالشكل الجديد للعلاقات الدولية الذي لم يكتفِ بحسم مرحلة المخاض والتحضير اللوجستي لمرحلة تعدد الأقطاب في وقت ليس ببعيد، وإنما بالمباشرة الفعلية في إنتاج تحالفات وترسيم أدوار تتسق مع المشهد الجديد، وتعبِّر عنه لتحديد ملامح المنطقة والعالم معها.‏

فالإنجاز الميداني الذي تحقق في البوكمال، كان تتويجاً لحسم ارتباطه بالعامل السياسي بشكل جذري، واقتضى في محوره الأول أن يكون الحامل الموضوعي لإعادة تنظيم الترتيبات التي تحكمها بالضرورة معطيات المشهد الإقليمي، وتتأثر بما يجري على المسرح الدولي، حيث الفارق هنا ليس مجرد انعطافة في مسرح العمليات العسكرية فحسب، وإنما مدخل لتموجات سياسية ومحاولات اصطفاف تتشكل فيها التحالفات والتفاهمات على أسس جديدة يكون المعيار فيها الحسم العسكري الذي تم، وفقدان مبررات الآخر بالتعويل على واقع خاسر، لا تنفع معه المكابرة، ولا طائل من الاستمرار فيها.‏

فقمم سوتشي التي تتلاحق تباعاً، والفعاليات التي تحتضنها، تبشّر بانبلاج ما هو أبعد من السياق الزمني لأحداث وتطورات، بحيث تكون نهاية حقبة وبداية حقبة لا تقتصر على جدولة زمنية، وربما جغرافية وحتى سياسية، لمتغيرات اقتضت الضرورة التاريخية أن تتوجها من خلال مسار سياسي، ومنحى في العلاقات الدولية، تبلوره الاتجاهات الجديدة، وتعمق حضوره، باعتباره المظلة والحاضن في آن معاً لصيرورة التطورات والتبدلات في عالم يطمح إلى التوازن، وتغيب عنه روح الهيمنة وحالة الاستلاب الظالمة.‏

وبغض النظر عن المقاربات التي خرجت عن قمة سوتشي الثلاثية، فإن الحاضر الدائم في كل تفاصيلها كان حجر الرحى العامل السوري والوضع السوري، بحيث ينبت على جوانبه، وفي الأروقة الداخلية والخارجية، وفي هوامشه مشهد الصمود السوري المدعوم من حلفائه وأصدقائه، ليظل في علم السياسة ومنطق التاريخ التجربة التي تصلح للقياس وربما للتعميم غرباً وشرقاً وفي الاتجاهات المختلفة للعلاقات الدولية، يعمم من خلالها محددات وأولويات العمل السياسي بشقيه الآني والإستراتيجي، ويرسم ملامح مشهد دولي وإقليمي يحاكي الخريطة الجديدة للاصطفافات السياسية.‏

المقاربة الموازية لها تحاول أن تحجز مقاعد ولو في العربات الخلفية، وأحياناً خارج الهوامش المسموح بها، بحكم أن الخلاصة المؤجلة المتاحة، تفيد بقدرة هذا المحور، وما بني على معالم الصمود الذي قلب جملة المعادلات القائمة، قادر أيضاً على التأسيس لمرحلة يكون فيها المشهد الدولي نظيفاً من استطالات التدخل الخارجي وزوائده المَرَضية، وفي حِلٍّ من كل ما يمت إلى الحقبة الماضية بصلة.‏

الفارق اليوم ليس فقط ذلك المتغير في الحسابات وقواعد الاشتباك الإقليمي والدولي، وإنما في المقاربة السياسية التي سينتجها على وقع ما يجري من تبدلات، أساسها الجوهري ذلك المحيط الحيوي من التفاعلات الموازية، بحيث يصبح متاحاً النظر إلى أبعد من ذلك، وبما ينتج صيغاً فاعلة من العمل تحدّ من التأثيرات السلبية القائمة، باعتبارها مكوناً من مكونات الثوابت السياسية، وجزءاً من عوامل المتحولات القائمة في معادلات التحالفات ومخلفاتها.‏

 

والفارق الآخر أن كثيراً من الطروحات باتت خلفنا، وكثيراً منها تجاوزه الزمن، وخرج من الخدمة مبكراً، وبعضها على الأقل لم يعد صالحاً حتى للمقاربة بأثر رجعي رغم محاولة البعض التمترس في مكانه وموقعه ودوره، ويقينه أن هناك من استبعدته الأحداث، وغيرته التطورات، وبدلته المتغيرات، ليكون مجرد صدى لوهم لا يزال يحاكي تمنيات البعض، حيث الزمن كفيل بتجاوزه، أو على الأقل بتجاهله، لأنه في المحصلة النهائية يبدو مقارباً للعدم!!.‏